اعلن على موقع بصراوي
رسائل "قلب الظلام"
رسائل "قلب الظلام"

رسائل “قلب الظلام”

رسائل “قلب الظلام”

بقلم : محمد عبد الكريم يوسف

هناك العديد من الرسائل التي أراد جوزيف كونراد أن يوصلها للعالم في روايته الرائعة “قلب الظلام” حيث يصور الظلم الاجتماعي الذي يتعرض له الإنسان من أخيه الإنسان في عصر مادي يسحق بمطحنته كل من يقف في طريقه ، وكل من لا يتفق معه في الرؤية والهدف ، وكل من يتهاون في السير في ركابه.

غطرسة  الامبريالية :

لقد أراد جوزيف كونراد أن يصور العالم الرأسمالي كما هو من دون إضافة ألوان أو تلميع أو مداهنة.  يسافر مارلو من المحطة الخارجية إلى المحطة المركزية ويصل إلى داخلها مستخدما النهر حيث يواجه مشاهد القسوة والتعذيب والإرهاب والعبودية. يقدم الروائي جوزيف كونراد في كتابه صورة قاسية للمؤسسة الرأسمالية والمجتمع الرأسمالي البغيض من خلال الدافع خلف رحلة مارلو ومغامراتهلتبرير الغطرسة الموروثة في المستعمرات الرأسمالية  والبلاغة المستخدمة لتبرير التصرفات والشعارات الامبريالية . يصف عمال الشركة تصرفاتهم بأنهانوعا من “التجارة”كما يصفون معاملتهم للمواطنين الأفريقيين كجزء من مشروع ” تحضير” الأفريقيين وفق المعيار الأوروبي الرأسمالي. ونجد كورتز من جانب أخر شخصا صريحا لا يهتم بالتجارة ولكنه يأخذ العاج بالقوة ويصف معاملته للمواطنين على أنها نوع من “القهر ” و” الابادة” ، ولا يخفي أبدا حقيقة أن يستخدم العنف والترهيب في معاملاته. ثم نكتشف أن قيمه الشريرة  تقوده نحو الهاوية خاصة وأن نجاحه يهدد بفضح الممارسات الأوروبية الشريرة التي تقف خلف النشاط الأوروبي في أفريقية .

ومعذلك ، فإن الأفارقة في رواية ” قلب الظلام ” بالنسبة لمارلووكورتز أو الشركة ، هم مجرد أشياء تقتنى وتشترى وتباع . يشير مارلو إلى قائده كآلة من الآلات ،وعشيقة كورتز الأفريقية في أفضل الأحوال ما هي إلا تمثال من التماثيل. يمكن القول أن أبطال” قلب الظلام ” يشاركون في اضطهاد غير البيض وهم أكثر شرًا وأكثر صعوبة في العلاج ويرتكبون الانتهاكات المفتوحة وخاصة كورتز ورجال الشركة . أصبح الأفارقة بالنسبة لمارلو مجرد صورة خلفية ، وشاشة بشرية يمكن أن يلعب بهاكورتز وأمثاله في نضالاته الفلسفية والوجودية. إن وجودهم وغربتهم يمكِّنهم من التأمل الذاتي. يصعب توصيف هذا النوع من القسوة والعنف واللاإنسانية الذي يمارسه الاستعماربعنصريته المفتوحة غير المحدودة.  تقدم رواية ” قلب الظلام ” إدانة قوية للعمليات الاستعمارية و النفاق الإمبرياليوتتعرض أيضًا لمجموعة من القضايا المحيطة المتعلقة  بالعرق التي تثير القلق في نهاية المطاف.

الجنون منتج من منتجات الامبريالية:

يرتبط الجنون ارتباطًا وثيقًا بالإمبريالية والرأسمالية في هذه الرواية . أفريقيا مسؤولة عن التفكك العقلي وكذلك الأمراض الجسدية. للجنون وظيفتين أساسيتين:أولاً ، يستخدم الجنون بمثابة أداة ساخرة لإثارة تعاطف القارئ. يخبركورتزالسيد مارلو من البداية أنه مجنون. ومع ذلك ، عندما يبدأ مارلو والقارئ في تكوين صورة أكثر اكتمالاً لكورتز ، يصبح من الواضح أن جنونه قريب نسبيًا ،ومن الصعب تعريفه في سياق جنون الشركة. وهكذا ، يبدأ كل من مارلو والقارئ بالتعاطف مع كورتز وينظر إلى الشركة بعين الريبة والشك. يعمل الجنون أيضًا على إثبات ضرورة الخيال الاجتماعي. وعلى الرغم من أن الأعراف الاجتماعية والمبررات التفسيرية التي تظهر في جميع أنحاء”قلب الظلام”كاذبة تمامًا و تؤدي إلى الشر ، إلا أنها ضروريةفي تحقيق الانسجام الجماعي والأمن الفردي. الجنون ، في”قلب الظلام”،هو نتيجة للابتعادعن السياق الاجتماعي للمرء والسماح له بأن يكون الحكم الوحيد على أفعاله. وبالتالي، فإن الجنون لا يرتبط فقط بالسلطة المطلقة أو أي نوع من العبقرية الأخلاقيةولكنه يرتبط أيضًا بقابلية الإنسان الأساسية للخطأ: ليس لدى كورتز سلطة على من يجيب على أسئلته سوى نفسه ، وهو شخص لا يمكن لأي إنسان أن يتحمله.

العبث شر من شرور الرأسمالية :

تعمل رواية”قلب الظلام” على استكشاف النفاق والغموض والارتباك الأخلاقي في المجتمعات الرأسمالية ، وتميز بين الشر الكبير والشر الصغير . يضطر مارلو إلى التعامل معالبيروقراطية الاستعمارية المنافقة  الخبيثة ومع كورتز الخبيث الذي يتجاوز كل الحدود ويتحدى القواعد والأصول. ويشير الكاتب إلى صعوبة الاختيار بين نوعين من الشرور وكيف يمكن للمعايير الأخلاقية أو الاجتماعية المنحلة أن تحكم على الشرور؟ هل هناك شيء في هذا الكون يشبه الجنون في عالم مجنون وعبثي في كل ناحية من نواحي الحياة والشواهد على ذلك كثيرة ، فهناك رجل يحمل الماء في دلو فيه ثقب كبير، وهناك عدد من العمال المحليين ينطلقون بعيدا نحو أحد التلال من دون هدف محدد. ينطوي العبث في الرواية على الكثير من المشاهد الحياتية اليومية التي يعانيها الناس في المجتمع الرأسمالي مثل السخف في معالجة القضايا الحياتية والتجريب وانحراف البوصلة  ويزداد الحال سخفا وعبثية عند معاملة من يعمل ومن لا يعمل بالمثل ويكثر الخلط الأخلاقي العميق والنفاق الهائل. أليس من دواعي الخوف والرعب أن تتعامل يوميا مع شخص يصر أن ينقل الماء بالغربال أو مع من يمارس أبشع أنواع القتل والتشويه والتعذيب.

عبثية الوجود:

تشير العديد من الصور التي تطرحها رواية “قلب الظلام” حول عبثية الوجود الأوروبي في أفريقيا . يشهد مارلو الصورة الأولى قبالة سواحل غرب أفريقيا حيث تنطلق سفينة حربية فرنسية بلا هدف نحو عدو غير مرئي . وتظهر الصورة الثانية في المحطة المركزية ، حيث يشاهد مارلو أوروبيين يحاولون عبثا اطفاء كوخ عشبي محترق . وهناك العمل غير المجدي في محطة الشركة حيث يقوم الأوروبيون بإجبار الأفارقة على تفجير حفرة في جرف صخري من دون أي سبب واضح. ثم يقع في حفرة عشوائية في الأرض حفرها العبيد وليس لها إلا هدف واحد هو أن يقع فيها العبيد دون غيرهم . كل هذه الأعمال وغيرها من الممارسات الأوروبية في أفريقيا بدءا من الأعمال الخيرية مرورا بالسفينة الحربية واطفاء الكوخ الخشبي وأعمال المحطة ما هي إلا إشارة واضحة وإدانة دامغة على عدم جدوى المهمة الأوروبية البيضاء في أفريقيا السوداء.

التناقض والتضارب في الرؤية :

تظهر التناقضات في كل مكان في قلب الظلام وخاصة فيما يتعلق بالشخصيات الأوروبية  التي تخدم في الرواية كنماذج حية على التصرفات الرأسمالية الامبريالية. على سبيل المثال ، يصر مارلو على أن فريسليفن ، القبطان الدنماركي الذي حل محله لم يكن سيئا تماما لكنه يصف كيف انتهى الرجل في نزاع عنيف على الدجاج ومات في النهاية برمح أفريقي. نظريا ، لقد رفعت البعثات الأوروبية الإمبريالية شعار الرغبة في تحضير الشعوب الأفريقية المتوحشة لكنها تعمل عكس الشعار الذي أعلنته فقد نشرت الخوف والرعب والقتل والموت في كل مكان حلت به. وعندما يجتمع مارلو مع المحاسب في المحطة يظهر التناقض الكبير بين النظرية والتطبيق في السلوك فالمحطة مليئة بالفوضى والقذارة ولكن المحاسب يظهر في بدلة نظيفة وشعر متموج مثالي . كيف ترفع الحضارة الأوروبية شعار النور في حين أنها تنشر الظلام حيث تحل؟ إنه التناقض في مهمات الحضارة الغربية في أفريقيا.

وتكثر التناقضات في نظرة مارلو  حول الاستعمار، فهو يمتلك وجهات نظر متناقضة حول الحياة إذ يفتتح قصته  بالحديث عن وصف إيمانه بفكرة الرحلات الأوروبية والاستعمار وغزو أفريقيا ثم يواصل سرد روايته  حول أهوال المهمة البلجيكية في الكونغو ، ويبدو في القصة أن التناقض الواضح بين فكرة الاستعمار وواقعها لا تزعجمارلو . يرى مارلو أن تصرفات الأفارقة تجاه الأوروبيين ما هي إلا رد فعل طبيعي على تصرفات  الأوروبيين  الذين يسيئون معاملتهم في المحطات المتواجدة على طول النهر. يفشل مارلو أكثر من مرة في رؤية الأفارقة والأوروبيين على قدم المساواة ، فهو يتألم على فقدان قائده الراحل و يصفه أحيانا بأنه متوحش وأحيانا بأنه أداة  ولكنه يصر على أن هناك نوع من الشراكة بينه وبين الأفارقة . هذا الاضطراب في الرؤية يدل على أن مارلو  غير مدرك للتناقض في وصفه للغرب وهناك تناقض أخر عند نهاية الرواية حيث يصف الحياة بأنها ذلك الترتيب الغامض للمنطق الذي لا يرحم وغرضه عقيم . الحياة في رأيه مليئة بالمنطق الذي لا يرحم ولها هدف عقيم ، أي أنها ذات مغذى وبلا معنى في الوقت نفسه , وموقف مارلو في الحقيقة يعكس اضطراب الرؤية لدى الشعوب الأفريقية تجاه الاستعمار الغربي لبلادهم .

انتشار الشعوذة  والخواء:

يقدم مارلو خلال رحلته مجموعة من الأشخاص الذين اتسموا بالفراغ الداخلي والخواء والشعوذة وهذا يعكس الطريقة والأسلوب التي سلبت فيها الإمبريالية الأوروبيين المخزون الأخلاقي لديهم . يشير مارلوإلى صانع الطوب الشاذ حين يلتقيه في المحطة المركزية على أنه صانع الورق ميفستوفليس  الذي ليس لديه شيء في الداخل  إلا القليل من الأوساخ الفضفاضة وهو ليس إلا ثمرة جوز مجوفة من الداخل وبدون محتوى  ويتحدث مارلو عن كورتز بنفس العبارات . يصفه بأن هناك أصواتا عالية في داخله  وهو شخص أجوف  وبلا معنى ويصل مارلو إلى هذا اليقين عندما يرى الرؤوس الأفريقية المقطوعة بسبب رهان سخيف . يختلف كورتز عن صانع الطوب في أن حديثه مبهرجا جميلا  لكنه في الحقيقة مفلس من الناحية الأخلاقية ورغم ذلك يظهره الكاتب متحدثا قويا لكن جسده يخور ويضعف . هذا التناقض بين الجوهر والشكل يُظهر كم ينخدع الناس بهذا الرجل.

حكاية ” قلب الظلام ” من الحكايات العالمية الراقية التي تتكرر عبر الأزمان لأن الشعوب المقهورة هي ذاتها  في كل زمان ومكان ،  و الإمبريالية هي ذاتها عبر الزمان والمكان . والقهر هو القهر وإن اختلفت ألوانه ، وضبابية الرؤية تجاه الاحتلال هي ذاتها لدى الشعوب والأقوام . لكن يبقى الأمل وسيده الألم هو من يخرج الناس من “قلب الظلام” إلى “عالم النور”. 

اعلن على موقع بصراوي

عن محمد عبدالكريم يوسف

محمد عبد الكريم يوسف (1965-) مواليد قرفيص/ سورية . مدرب ومترجم وأكاديمي و محاضر في الجامعات السورية رئيس قسم الترجمة سابقا في الشركة السورية لنقل النفط رئيس دائرة العقود والمشتريات الخارجية سابقا في الشركة السورية لنقل النفط رئيس دائرة التنمية الإدارية في الشركة السورية لنقل النفط سابقا . كاتب في العديد من الصحف العربية والأمريكية باللغتين العربية والانكليزية ، رئيس دائرة التأهيل والتدريب في الشركة السورية لنقل النفط ، حاليا رئيس المركز السوري للتنمية المستدامة 2019 . مؤلف لأكثر من 35 كتابا "يأتي في طليعتها " معجم مصطلحات وقوانين الشحن البري البحري الجوي" و"قاموس المنتجات الصناعية ، وكتاب " الصياغة القانونية للعقود  التجارية في القطاع العام والخاص والمشترك باللغتين العربية والانكليزية

شاهد أيضاً

لاطفـال المصابين بسوء التغذيـة بين الحقيقة المفقودة والواقع المرير 

لاطفـال المصابين بسوء التغذيـة بين الحقيقة المفقودة والواقع المرير  تقرير / هدى ابراهيم سلمان لايخفى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *