الحدود الرشيقة في الحياة

الحدود الرشيقة في الحياة

بقلم محمد عبد الكريم يوسف

يتطرق هذا المقال بشيء من التفصيل للحدود الرشيقة في الحياة وكيف نتدبر أمورنا في عالم يعج بالفضولية والحساسية وكيف يمكن للإنسان أن يقيم حدودا رشيقة بينه وبين الآخرين من دون أن يتسبب ذلك في احداث الحساسية والتنافر في العلاقات وخاصة في مواقع العمل حيث تكون معظم العلاقات اجبارية تفرضها طبيعة المؤسسة التي نعمل بها والعمل الذي نؤديه مع مراعاة حدود الله التي فرضها في الرسالات السماوية .

وتعالج الكثير من الكتب الإرشادية في المؤسسات والشركات العلاقات المادية بين الأفراد لكن نادرا ما تتطرق للقيم الروحية والحدود النفسية بين الأفراد لأنها في غالبها مسألة جدلية ومسلم بها وتكتفي هذه الكتب الإرشادية بذكر الحدود بشيء من الاختصار والاقتضاب مثل : عدم مناقشة الأمور الدينية والسياسية في المؤسسة التي تعمل بها لأنها تؤثر على العمل وتقود إلى التنافر والتضاد بين الأفراد.

خطر ببالي هذا المقال وأنا أشاهد فيلما بعنوان ” الحساس والحب ” يناقش حالة الأفراد الحساسين وهم في حالة الحب ولاحظت أن الفيلم يناقش مسألة الحدود المباشرة بين الأفراد وكيفية التعامل معها للوصول إلى أفضل علاقات تقوم على التناغم والتآلف والتآخي والمحبة  .

يتفق الكثير من الناس على أن معرفة الحدود يحتاج إلى منهاج دراسي متكامل أو دورة تدريبية تذكرهم بالحدود الشخصية والعامة إضافة إلى حدود الله المذكورة في الرسالات السماوية  . الحدود الشخصية مسألة جدلية في الكثير من المجتمعات فما تراه بلسما في بعض المجتمعات قد يكون علقما في مجتمعات أخرى ولكن متى اجتمع أناس من بيئات مختلفة في مكان عمل واحد علينا أن نعلمهم الحدود الرشيقة المعتمدة في المؤسسة وكيف تتم مراعاتها تلافيا لأي تعطيل في العمل أو خلاف قد يطرأ بين فردين ينتميان إلى بيئتين مختلفتين ويعملان في بيئة ثالثة خاصة وأنهما كليهما قد يكونان على صواب في البيئة التي ينتميان إليها .

وحتى نتمكن من تأسيس قاعدة متينة للحدود الرشيقة بين الأفراد في المؤسسة الواحدة علينا أن نبدأ بما يلي:

  1. الوضوح في القول والعمل واعطاء التلميحات والاقتراحات. علينا تجنب كلمات مثل ” ربما ” و ” قد يكون ” و ” سأحاول” و ” إذا استطعت” عندما نريد أن نقول لا أو أن نعبر عن عدم الموافقة على المقترحات الأخرى . علينا استخدام الأسلوب المباشر في ايصال رسالتنا للأخرين إن كانت إيجابية أو سلبية .
  2. ليس من الضروري أن تقدم سببا للرفض .
  3. يمكن أن تعبر عن الرفض بأنك متعب أو مثقل بالهموم ولا يمكنك السير في الخيار المقترح.
  4. في حال عدم فهم الآخر تجنب الموافقة التي تحرجك  وأخبر الآخر بأنك ستعود لمناقشة الأمر معه لاحقا وخلال مدة محددة من الزمن .
  5. لا تجيب بالرفض الوجاهي إذا كان بالإمكان الاعتذار عن الرفض بالبريد الصوتي  أو رسالة مكتوبة أو بالبريد الالكتروني .
  6. علينا أن نتذكر أن الشخص الذي يمتلك السلطة العليا يجد سهولة في وضع الحدود أكثر من الشخص في السلطات الدنيا فهو يختار أفضل مكتب وأفضل كرسي ويضع قواعد التعامل ويحدد المهام ويوزعها ويحدد طريقة العمل وفي كثير من الأحيان لا يراعي الشخص الذي يمتلك السلطة العليا الحدود الرشيقة ويستبدلها بالحدود التي تناسبه.

حكاية الحدود :

ما الحدود؟

هل تعني أن يعيش الإنسان في بيئة منعزلة مغلقة ؟

هل تعني الحدود أن يبني الإنسان جدارا مسلحا بينه وبين الآخرين ؟

هل تعني الحدود أن تفرض قيمك الفكرية والدينية والسياسية على الآخرين ؟

هل الحدود هي ما يظهر في سلوكنا أمام الناس أم ما نبطنه من أفكار تجاههم؟

هل الحدود هي ما هو موصوف في نظرية النظم الإنسانية  بحيث نأخذ منها ما يناسب احتياجاتنا وما هو جيد لنا في العمل والمنزل وعلى المستوى الشخصي ؟

كيف يمكننا تنظيم الحدود بيننا وبين الآخرين وبيننا وبين أنفسنا وما المسموح وما الممنوع في الحدود ؟

هناك الكثير من الأسئلة التي تخطر في البال عند الحديث عن الحدود الرشيقة في الحياة والعمل . يحاول معظم الناس ابعاد فيروس الانفلونزا في الشتاء عن أنفسهم وفي ذات الوقت يقترب شخص مصاب بالإنفلونزا من شخص سليم ويصافحه بالتقبيل على وجنتيه بدافع المحبة  فينقل العدوى إليه رغما عنه . ونرى أشخاصا كثيرين يقيمون الحدود في منازلهم ويخرقون القوانين والحدود في أماكن أخرى . هناك من يذهب إلى دور العبادة ويؤدي الصلوات في مواعيدها ويتعامل بالرشوة  . وهناك من يحافظ على منزله نظيفا في حين يرني الأوساخ في الشارع . فكيف يمكن للإنسان أن يوحد مسألة الحدود الداخلية والخارجية ويجعلها رشيقة ويتصرف بانسجام بين أفعاله وأقواله . هناك حدود مرئية وحدود غير مرئية وهناك حدود نستنتجها وحدود نراها بالعين المجردة . وإذا نظرنا إلى السيارة التي تنتقل بنا من مكان إلى آخر أو ألة صنع القهوة أو الراديو  سنجد أنه يعمل بنظامين نظام مرئي ونظام غير مرئي وهكذا تعمل الحدود الداخلية والخارجية لتعطي في النتيجة عملا منسجما مثمرا وفعالا. ليست الحدود مرئية طوال الوقت فقد تكون الحدود نفسية  وقد تكون فكرية وقد تكون دينية  وقد تكون مكتوبة على الورق وقد تكون الفكر والوجدان والعاطفة . ويمكن تشبيه الحدود بالحدود الوطنية للدولة حيث تعني في ما تعنيه السور العاطفي و المادي والانتماء وتتضمن الحدود الوطنية معرفة القوانين والأنظمة النافذة وجوازات السفر وأحكامها والاختلافات الثقافية والتجارية والقانونية واللغوية والآثار الأخرى الملموسة الناجمة عن تلك الحدود .

وهناك حدود داخل الحدود ، فإذا نظرنا إلى حدود الجمهورية العربية السورية سنجد أن هناك دولا معينة تحدها من الجهات الأربعة وهناك محافظات داخل الحدود الكلية لها حدودها وأنظمتها وأعرافها وتقاليدها ولكل محافظة هيكلها الإداري والقانوني والتعريفي  وتشكل بمجموعها النظام الكلي المعمول به . وينطبق هذا الأمر على الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الروسي وألمانيا وكافة دول العالم المختلفة وتعمل الحدود بين البشر بنفس الطريقة . 

الحدود الرقيقة والحدود الرشيقة وطرق التفكير :

يذهب عالم النفس إرنست هارتمان إلى أن البشر يميلون إلى التفكير بأن الحدود لها خاصية النفاذية  في العديد من النواحي . ويركز على حدود العقل البشري  ويصف البشر بأنهم رقيقي البشرة لا يحتملون الكثير من الضغوط والتأويلات خاصة ناحية العقل والاختلاف بين الوعي واللاوعي وحالة الاستيقاظ والنوم والأحلام والذاكرة وحالة التقدم  في العمر مقابل حالة الطفولة والشعور واللاشعور وتفضيل الحالة الصلبة مقابل الحالة السائلة  وهكذا دواليك .

ويعتقد عالم النفس أرنست هارتمان أن بعض الجوانب متشابهة في عمقها وسمكها ومزاجها داخل النفس البشرية وأن علينا أن نراعي الحدود وقد طرح هارتمان الكثير من الأسئلة والاختبارات حول الحدود ومراعاتها . قد يكون الانفتاح جميل في حالات كثيرة ولكن يجب في أي حال من الأحوال أن لا يؤثر سلبا على الحدود. لنفترض أن شخصا ما أصيب بألم ألم به جراء صدمة جسدية ما فإذا كانت الحدود الفاصلة بينة وبين مسبب الصدمة سميكة وقوية وجيدة سيكون الألم محدودا وإذا كانت الحدود الفاصلة بين الجسد ومسبب الصدمة رقيقة سيكون الألم كبيرا . وما ينطبق على الحدود الجسدية ينطبق على الحدود النفسية . 

الحدود الرقيقة ليست دائما فطرية تولد معنا  

وحيث أن الحدود السميكة ليست فكرية تولد معنا كذلك الحدود الرقيقة أيضا . ويستطيع الإنسان تعلم الحدود الرقيقة تماما مثل تعلمه للحدود السميكة عبر تطوير مهارات خاصة من خلال القراءة والدورا التدريبية والتجارب المتعددة في الحياة . قد يكون سبب ضعف الحدود مصدره عدم السماح مطلقا بتطوير الحدود الأساسية التي تفصل الذات عن الآخرين في مرحلة الطفولة . على سبيل المثال يمكن تطوير مهارات الحدود منذ الطفولة عبر  اتخاذ قرارات معينة بشأن تطوير الذات والعناية بها والسماح ببعض الخصوصية والسماح بالاحتجاج ضد المظالم والابتعاد عن القسوة وعدم حرمان الأطفال من الاستمتاع بالخصوصية والحدود .

الحدود تساعد في التمايز والتمييز بين الأفراد وضمور الحدود الرقيقة والحدود السميكة قد يؤدي في المستقبل إلى مشكلات لا تنتهي لدى الأفراد وقد تتأثر نفسيتهم وبدلا من التفكير في تعقيدات الحياة وبين ما هو واقع وما هو متخيل يمكن أن نبسط الحياة ونتعلم ترميم الحدود الناقصة في حياتنا عبر التعليم والتعلم . التعليم والتعلم ليسا مضيعة للوقت وإنما سبيلا لتنمية الداخل والخارج  في حياتنا . الحدود تحافظ على الحقوق وتنمي السعادة وتساعدنا على النجاح الدائم والمستدام وتبعدنا عن هيمنة الآخرين وتحافظ على حياتنا العامة والخاصة وتساعد حياتنا حتى تبقى في أقصى درجات رشاقتها .

يؤكد هارتمان على ضرورة أن يكون هناك شيئا من التوازن بين الحدود الرقيقة والحدود السميكة في الحياة  ويخرج بسؤال مفاده : هل هناك أجمل من شيئين متوازيين متساويين في قوتهما القصوى في الحياة ؟ الجواب : بالتأكيد لا.

الحدود الرشيقة

الحدود الرقيقة هي الحدود التي تقول “نعم” دائما وتسمى أحيانا بالحدود الفقيرة ونحن نحتاج في حياتنا إلى صقل هذه الحدود وزيادة سماكتها من خلال تعلم الفرد كيف يقول “لا” . على الإنسان أن يتعلم كيف يستفيد من الحدود الرقيقة بأمان كمن يفكر في نافذة مفتوحة على مصراعيها أو نافذة مغلقة من دون ستائر أو نافذة مغطاة بستارة رقيقة شفافة  أو نافذة مغلقة بإحكام ومحظور أن ترى ما خلفها. وقد يخطر ببالنا أن نسأل ما الفرق بين الجدار والنافذة المغلقة التي لا يمكن رؤية ما خلفها.

قد تكون الطريقة التي يتعامل فيها الفرنسيون مع النوافذ مجدية حيث يمكنك أن ترى امرأة فرنسية ساحرة   تطل من نافذتها المفتوحة تدردش مع جارتها أو تسقي زهورها ، وعندما تتراجع للوراء تستطيع أن ترى ستائر نافذتها الشفافة تتمايل مع النسيم . وعندما ترغب الفاتنة الفرنسية في الهدوء تغلق النافذة وأنت تستطيع أن ترى الستائر الشفافة من خلال الزجاج  وعندما يحل المساء تقوم الفاتنة بإغلاق النافذة بإحكام بحيث لم يعد بإمكانك أن ترى شيئا خلفها. ويحدث في الحدود الرشيقة ما يحدث مع النافذة والفتاة الفرنسية .

ما رأيكم بسحر النوافذ الواسعة ؟

ما رأيكم بمن يتخلى عن الأشياء بسرعة كبيرة ؟

ما رأيكم بطفل يقذف بلعبته أو بالماء أو الحساء أو الملابس من النافذة ؟

الفكرة التي نناقشها هنا هو التمييز بين الحدود الرقيقة والحدود الرشيقة وقد سألنا أسئلة مثيرة للاهتمام وهذا ما يميز الفرد المبدع عن المضحك عن السخيف عن السطحي . نحن نبحث دائما عن عمق الفكرة لا عن سطحيتها  .

لدى العديد من الناس الكثير من الحدود الرقيقة مع الأصدقاء والزملاء والأهل وجميعنا يمتلك حدودا رقيقة بين ماضيه وحاضره ومستقبلة ولهذا السبب نجد ماضينا في مستقبلنا ينتظرنا في مكان ما على قارعة الطريق.  الطفل يرغب في الطعام اللذيذ بمذاقه الحلو رغم أنه قد يكون رديئا للصحة ويتحاشى الطعام المفيد بمذاقه العادي رغم فائدته العظيمة لصحته . علينا اعادة التفكير في جميع تجاربنا والاستفادة من ملاحظاتنا المتأنية في الوقت الحاضر حتى نطور أفكارا أفضل في المستقبل.

ويأتي عمق المعالجة أيضا في الحدود الرقيقة بين الوعي واللاوعي في الحاضر وبين ما هو مخزن في الذاكرة وما يشعر به الأخرون وما نشعر به نحن في حالة خليط غير صاف لدرجة كبيرة . علينا أن نطور في داخلنا ضميرا صاحيا يقظا  ينعكس في قراراتنا ومنسجما مع الإشارات التي يرسلها الأخرون لنا خفية .

يتبع….

المراجع

Search.proquest.com › open view

The theory of graceful extensibility: basic rules that govern

graceful-boundaries-part-iii-controlling-…

Graceful Boundaries, Part III –… – Highly Sensitive Extroverts

اعلن على موقع بصراوي

عن محمد عبدالكريم يوسف

محمد عبد الكريم يوسف (1965-) مواليد قرفيص/ سورية . مدرب ومترجم وأكاديمي و محاضر في الجامعات السورية رئيس قسم الترجمة سابقا في الشركة السورية لنقل النفط رئيس دائرة العقود والمشتريات الخارجية سابقا في الشركة السورية لنقل النفط رئيس دائرة التنمية الإدارية في الشركة السورية لنقل النفط سابقا . كاتب في العديد من الصحف العربية والأمريكية باللغتين العربية والانكليزية ، رئيس دائرة التأهيل والتدريب في الشركة السورية لنقل النفط ، حاليا رئيس المركز السوري للتنمية المستدامة 2019 . مؤلف لأكثر من 35 كتابا "يأتي في طليعتها " معجم مصطلحات وقوانين الشحن البري البحري الجوي" و"قاموس المنتجات الصناعية ، وكتاب " الصياغة القانونية للعقود  التجارية في القطاع العام والخاص والمشترك باللغتين العربية والانكليزية

شاهد أيضاً

استغراب المواطنين من إغلاق السفارة الدنماركية في العراق

استغراب المواطنين من إغلاق السفارة الدنماركية في العراق مقال : محمد حسين العبوسي / مدافع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *