مقالات بصراوي

لعنة الشهرة

لعنة الشهرة

بقلم محمد عبد الكريم يوسف

يطمح الكثير من الناس للشهرة وتبوء المناصب العالية والتحول إلى شخصيات عامة، ويفكرون بمزايا الشهرة ويتناسون مثالبها ومشاكلها التي لا تعد ولا تحصى .

أن تكون مشهورا في مكان العمل ليس بالأمر السيء، لكنه يجلب للإنسان المزيد من الأعمال التي يكون هو أساسا في غنى عنها . وتشير الدراسات المتخصصة أن الإنسان المشهور يقضي 30 % من وقته في الاستماع إلى قضايا ومشكلات لا تعنيه ولا تساهم في تطوير مسار العمل لديه لكنها تحرق وقته وتضيعه من دون فائدة في معظم الحالات . في حقيقة الأمر ، الشهرة بين الناس لعنة لا نعمة ، لأن المشهور سيكون في دائرة الضوء طوال الوقت . لقد رفضت مريم العذراء الشهرة بين الناس وقالت جملتها الشهيرة ” يا ليتني كنت نسيا منسيا ” . الطريف في الأمر أن لا أحد يرضى بواقعه ، فالمغمور يحلم بالشهرة ، والشهير يحلم بالنسيان .

يجب أن يكون واضحا أن الشهرة ومشكلاتها تعرض الإنسان لما يسمى مطاردة الشهرة أو الثروة بدل مطاردة هناء البال.

قد توفر الشهرة فرصة نادرة للاستمتاع بالحياة والمال، ولكنها تجلب الكثير من الاهتمام غير الضروري . صحيح أن الشهرة والثراء تمكّن الإنسان من عمل ما يريد من رحلات وسفر ونزهات ومشتريات وتمكّن لدى الإنسان الشعور بالحرية والانطلاق نحو الحياة . لكن هذه الحرية مزيفة إلى حد بعيد لأن العامة يراقبون تحركات الشهير وسلوكه ، وينشرون كل تحركاته ، ويذيعون عنه الأخبار الكاذبة بغرض الإثارة وجني الأرباح ، ومع التعود على الشهرة  يتحول الإنسان إلى مجرد عبد يمتلك المال ويديره دون أن يستمتع به.  لا يتمتع المشاهير بأموالهم بقدر ما يستمتع بها غير المشهورين. (ينتهي الأمر بالبعض ليصبحوا ضحايا لأموالهم) . الحقيقة المؤكدة هي أن الإنسان متى أراد أن يعيش بسلام ، عليه أن يعيش بغموض نسبي .

غالبًا ما يحاول الممثلون المشهورون الاختباء عن الجمهور لأسباب متعددة يأتي في طليعتها الأمور المالية ، وتجدهم  يرتدون نظارات ويغطون وجوههم لتجنب رصدهم من قبل الحمقى. في الحقيقة الشهرة مصدر إزعاج .

وعندما يعانق الإنسان الشهرة والسعة ومحبة الناس ، يتعرض وقته للاستهداف والتدمير وتتعرض برامجه اليومية للانقطاع سواء كان ذلك لصورة شخصية أو توقيع أو حتى للحصول على بعض النصائح .

وعندما يكون الإنسان صحفيا أو مدير مكتب له علاقة بالناس ، يرسل له القراء بريدا الكترونيا كثيفا للاستفسار عن شيء ما أو آخر. ومجرد الرد على البريد الالكتروني يستهلك الكثير من الوقت والجهد والنفقات . الشهرة ليست دائما مصدر راحة . 

تخيل أن الأشخاص الذين يحبون عملك يطرحون عليك أسئلة في الحياة الواقعية.  يجب أن تكون لطيفًا وتجيب عليهم فهم يسألونك لأنهم معجبون بك. قد تفضل القيام بشيء آخر ، لكنك ستكون ملزمًا بالإجابة عليهم . الشهرة التزام وأي التزام أمام المعجبين والأنصار .

وتجلب الشهرة قدرا لا يستهان به من الازعاج غير الواقعي . بالنسبة لمعظم الناس، فإن مطاردة المشاهير وتعقب أخبارهم ليست مشكلة كبيرة إذ أن وقتهم ملك لهم بل ويخصصون وقتا أطول لمتابعة المحبوبين وتعقبهم أينما  ذهبوا . وربما كان أفضل مثال على مطاردة المشاهير ما حلّ بالأميرة ديانا وصديقها. وهناك من يتابع المشاهير وحفلاتهم وأخبارهم بمعدل 5 ساعات على التلفاز كل يوم.  الشهرة هي مجرد مضايقة من الناس العاديين. الغريب أن المشاهير يعتقدون أن مطاردتهم من قبل الحمقى  هو “الجزء الممتع” من حياة الشهرة ، وهم في الغالب أناس غير ناضجين لحد الجنون وعشوائيون يتجمعون حول المشاهير على اعتقاد وهمي منهم أنهم يعرفون المشهور، وهو يحتفظ بذكرى لقائه معهم .

وإذا كان الحال كذلك ، فالمنطق يقول أن حياة المشاهير لا معنى لها ، ورغم ذلك  يصر الكثير من الناس على صعود سلم الشهرة من دون تردد ويلومون كل شخص يبتعد عن هذا الطريق.

يشعر الإنسان بالحزن تجاه الأشخاص العشوائيين الذين يظهرون للمشاهير كل مرة يخرجون فيها للحياة العامة، أو يذهبون للتسوق أو يتناولون الطعام في ركن هادئ . الشهرة بحق لعنة لا يمكن تجنبها على الاطلاق .

في عالم اليوم ، يمكن أن يتعرض المشاهير لدعاوي قضائية على أي شيء يقومون به بهدف الابتزاز والسمعة . وعندما يصبح الإنسان مشهورا وثريا وشخصية عامة  يصبح هدفا للحيوانات المفترسة التي تحاول كسب المال من مقاضاة الناس،  وخاصة في الدول التي تعتمد فيها الحياة على قوة القانون مثل الولايات المتحدة الأمريكية . هناك الكثير من المجانين الشرهين غير الأمناء الذين يحاولون الابتزاز بشراهة كالإسفنجة، وفي حال وصل الإنسان إلى مرحلة لفت الانظار في المجتمع بما يكفي فسيجد نفسه في مواجهة نوع غريب من المجانين الذين لا يصادفهم الإنسان العادي في طريقة .  قد لا تسمع عنها كثيرًا ، لكن الدعاوى القضائية التافهة أكثر شيوعًا مما يعتقد الإنسان. الشهرة قيد أكثر مما هي حرية .

تسبب الشهرة الكثير من الإزعاج للمشهورين حيث تكثر الأقاويل والشائعات التي لا يمكن دحضها بسهولة والتي تقود بطريقة أو بأخرى إلى الاضرار بالسمعة الشخصية . وعندما تتسرب الأقاويل والوشايات إلى الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة ويساء تفسير الكلمات ويتم تأويلها بطرق مختلفة يصبح من المستحيل تصحيح أو تنظيف السجل الشخصي للإنسان وقد يستغرق ذلك طويلا . يسمع كل الناس بالفضيحة ، لكن قليلون هم الذين يسمعون بالبراءة ويصدقونها.

الشهرة بطريقة أو بأخرى فقدان للحرية لأم المشهورين يسعون للارتقاء بسلوكهم إلى مستويات التوقعات العشوائية التي يفرضها المجتمع عليهم . يتوقع المجتمع المتدين من المشهورين الظهور باحتشام في التجمعات العامة، وفي ذات الوقت يطلب منهم المجتمع المنفتح الظهور بالمظهر المناسب بما يتلاءم والقواعد الاجتماعية المعمول بها في هذه المجتمعات . تشكل مراعاة الأعراف والتقاليد المجتمعية حزمة ضاغطة على سلوك وتصرفات المشهورين في حين عندما تكون لا أحد ومن العامة، لا يتوقع منك أحد أي شيء ، وبالتالي تعيش حياتك كما تشاء من دون تتبع أو قيود مجتمعية صارمة .  

السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو : هل يتوقع المجتمع من المشاهير الظهور بالمظاهر المناسبة في الأماكن العامة ؟ ألا يحق لهم التصرف بحرية وعلى سجيتهم بين الحين والآخر من دون أن يمس أحد حريتهم أو حياتهم الخاصة ؟

الجواب ببساطة :”لا. لا يحق لهم. “

وبالتالي تكون الشهرة قيد وسجن في الهواء الطلق لا يمكن التحرر منه.

من جانب آخر ، لا تنجو عائلة المشاهير من لعنة الشهرة ، فالعامة تطاردهم حيثما حلوا وتنشر صورهم في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي دون طلب الإذن . يحاصر العامة عائلات المشاهير تما كما يحاصرون المشاهير أنفسهم ويتوقعون منهم توقعات تفوق قدرة احتمالهم وخاصة الأمهات والزوجات والأولاد وبالتالي يعانون الكثير نتيجة الشهرة . الشهرة تسبب بطريقة أو بأخرى بضغوط تسلب الحرية الشخصية للمشاهير وتفرض عليهم قيودا مالية وسلوكية وأمنية . في الحقيقة يشعر الإنسان بالتعاطف مع عائلة المشاهير نتيجة الضغط الاجتماعي الذي يفرضه المجتمع نتيجة التعثر والفشل في أداء أي عمل مطلوب منهم . 

الشهرة سلاح مشرع دائما في وجه المشاهير . فالإنسان العادي إن أخطأ ينسى الناس ذلك سريعا ولكن لا تنطبق الحالة على المشاهير في حياتهم العامة والخاصة إذ أن الناس لا تنسى الهفوات التي يرتكبها المشاهير في حياتهم ويمكن أن يتذكرونها ويعيدونها للواجهة حتى بعد مضي خمسين عاما عليها . وقد يسيء الناس فهم كلمات المشاهير عمدا بهدف احراجهم وتحويلهم إلى عبيد لا يمتلكون الحد الأدنى من الحرية .

الشهرة قد تعرّض أصحابها للكراهية لمجرد النجاح في الحياة . والغيرة عاطفة قوية تتأجج في دنيا المشاهير فتكثر الدسائس والألغام في حياتهم . قد يعتقد البسطاء أن حياة المشاهير جميلة وجيدة وليست هدفا لأحد من المغرضين ولكن هذا الاعتقاد خاطئ تماما ، فالمشاهير يتعرضون لشتى التعليقات والانتقادات والحسد من أقرب الناس لهم حتى أولئك الذين يستفيدون ماديا من الاقتراب من المشاهير. المقارنات من طبيعة البشر وتعبير ” لماذا لست أنا ؟ ” . إنها الحكاية ذاتها من عصر قابيل وهابيل تتكرر في كل زمان ومكان .  تأتي الكراهية نحو المشاهير والناجحين ليس لأنهم أساؤوا لأحد ولكنهم يكرهون المشاهير والناجحين لأنهم بشر ويعتقدون أن فشلهم ناجم عن نجاح المشاهير وبالتالي يطلبون تحقيق التساوي والعدالة ليس بالصعود إلى المشاهير وإنما بإنزال المشاهير والناجحين من أبراجهم . وليس سرا أن الناس العاديين لا يحبون المشاهير والناجحين بل ينظرون إليهم بتوجس وحسد . الشهرة وقود للغيرة ونيرانها تؤججها باستمرار .

قد يفسر ذلك رغبة بعض أصحاب القوة والثروة العيش في الظل بعيدا عن الأضواء ولا يكشفون مصدر قوتهم وثروتهم الحقيقية إلا لعدد قليل من الناس . يدرك أصحاب الثروة الحقيقية أن الكل يريد شريحة من الفطيرة التي حصلت عليها وفي حال لم تشاركهم الفطيرة سينظرون إليك بكراهية وحسد . الشهرة مصدر من مصادر انعدام الأمن والأمان للمشاهير على المدى الطويل .   وقد تسبب الشهرة العزلة الاجتماعية والعائلية وحالات من الضغط النفسي الشديد نتيجة المراقبة والحسد والكراهية التي قد يتعرض لها المشاهير وعائلاتهم في كل مكان بدءا من بوابه منزلهم الخارجية وحتى أبعد منصة اجتماعية رخيصة . الشهرة فخ يجب على المشاهير وعائلاتهم الانتباه الجيد كيلا يقعون فيه .

علينا جميعا البحث عن الثراء الحقيقي والابتعاد عن أضواء الشهرة المزيفة . ليس هناك ما هو أجمل من هناء البال والحرية المسؤولة ، وعندما يبدأ الإنسان في عملية الثراء الحقيقي روحيا وماديا يبدأ بالتدريج تعلم كيفيه التعامل مع الشهرة وضبطها بما ينسجم والحرية الشخصية والمجتمعية .

محمد عبدالكريم يوسف

محمد عبد الكريم يوسف (1965-) مواليد قرفيص/ سورية . مدرب ومترجم وأكاديمي و محاضر في الجامعات السورية رئيس قسم الترجمة سابقا في الشركة السورية لنقل النفط رئيس دائرة العقود والمشتريات الخارجية سابقا في الشركة السورية لنقل النفط رئيس دائرة التنمية الإدارية في الشركة السورية لنقل النفط سابقا . كاتب في العديد من الصحف العربية والأمريكية باللغتين العربية والانكليزية ، رئيس دائرة التأهيل والتدريب في الشركة السورية لنقل النفط ، حاليا رئيس المركز السوري للتنمية المستدامة 2019 . مؤلف لأكثر من 35 كتابا "يأتي في طليعتها " معجم مصطلحات وقوانين الشحن البري البحري الجوي" و"قاموس المنتجات الصناعية ، وكتاب " الصياغة القانونية للعقود  التجارية في القطاع العام والخاص والمشترك باللغتين العربية والانكليزية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى