مقالات بصراوي

النزعة الإنسانية(الأنسنة) الجذور و المنطلقات

النزعة الإنسانية(الأنسنة) الجذور و المنطلقات

الدكتور عماد عبد الرازق-أكاديمي مصري

تمثل النزعة الإنسانية (الأنسنة) اتجاه فكري عام تشترك فيه العديد من المذاهب الفلسفية و الأدبية و الأخلاقية و العلمية . و لقد ظهرت هذه النزعة بوضوح و اكتمل نضجها الفكري في عصر النهضة . كما أنها تمثل مذهب فلسفي أدبي مادي لا ديني يوكد علي فردية الإنسان مقابل الدين و يغلب و جهة النظر المادية الدنيوية. كما أنها تمثل أيضا تيار ثقافي ازدهر في أوروبا و ينظر إلي العالم بالتركيز علي أهمية الإنسان و مكانته في الكون. و تعود جذور النزعة الإنسانية إلي الفكر الفلسفي اليوناني القديم ، فإذا رجعنا إلي تلك البدايات نجد أن (طاليس) و (اكسينوفان)  كانا أول الإنسانيين اليونانيين. كذلك يوجد (بروتاجوراس) أحد السفسطائيين و الذي أكد في مقولته الشهيرة أن (الإنسان هو مقياس الأشياء) . و لقد تطورت تلك النزعة و بلغت أوج نضجها الفكري في عصر النهضة ، وركزت علي الإنسان و تحريره من ربقة وأغلال و قيود العصور الوسطى، و سيطرة الكنيسة، و الانطلاق بالإنسان إلي أفاق رحبة ، ومن خلال تلك الأفاق تنطلق قدراته و إبداعاته و عقله. لان النزعة الإنسانية ليست نسق فلسفي جامد محدد ، و لا هي تعاليم مغلقة علي نفسها ، بل هي حوار دائم شهد و جهات نظر مختلفة و لا يزال . و مع ذلك تظل النزعة الإنسانية تعبيرًا عن وجهة نظر شخصية ، مركزها و نقطة انطلاقها الإنسان. أما إذا رجعنا إلي الأصل اللغوي و نشأة مصطلح ( الإنسانية) (Humanism) نجد أن معاني هذا المصطلح قد تعددت و تنوعت، وتشير البدايات الأولي لنشأة هذا المصطلح إلي أن أول من استخدمه هو المؤرخ الألماني و عالم اللغة (جورج فويت) عام 1856و ذلك لوصف الحركة التي ازدهرت لإحياء التعليم الكلاسيكي أثناء فترة عصر النهضة في أوروبا ، و ذلك من اجل إحياء التعاليم الكلاسيكية في النهضة الأوروبية. و يجب أن نشير إلي أن كلمة إنساني(Humanist) مشتقة من المصطلح الايطالي )   Umonist) في القرن الخامس عشر و يعني المعلم ، أو الباحث العلمي في الأدب اليوناني ، ثم من خلال الثورة الفرنسية و بعدها بقليل في ألمانيا بفضل الهيجليين اليساريين بدا مصطلح الإنسانية يشير إلي الفلسفات و الأخلاق التي ترتبط بالإنسان ذو الاهتمام بأية مفاهيم إلهية ، ومع بداية الحركة الأخلاقية في ثلاثينات القرن العشرين أصبح مصطلح (الإنسانية) مرتبط بنحو متزايد مع الفلسفة الطبيعية ، و مع العلمانية. و الجذور العميقة لمصطلح ( الهيومانزم) تعود إلي اليونان القديمة من خلال عبارة أو لفظة (Paella Enkiklio) التي تشير إلي التعليم المتوازن. و قد أخذت فكرة التعليم هذه طريقها إلي الرومان ، وكان التمكن من فنون الخطابة هو السبيل إلي امتلاك النفوذ و القوة، وكان الكلمة اليونانية التي اختارها شيشرون لفكرة التعليم المتوازن هي الكلمة ( Humanities). و يجب أن نشير إلي ملاحظة هامة و نحن في سياق الحديث عن تأصيل مصطلح الإنسانية في الثقافة الغربية و هي أن دخول هذا المصطلح إلي الثقافة العربية تم في القرن التاسع عشر حسب ما تذكره الموسوعات و القواميس المختصة. من هنا نري أن مفهوم النزعة الإنسانية في ظهوره الأول يرتبط ارتباطًا و وثيقا بالدعوة إلي إعادة بناء النظم التعليمية و التربوية ، و العودة من ناحية آخري إلي الآداب القديمة التي تقدم المثل الأعلى في السلوك و المعرفة. و تعتبر أفكار عصر النهضة و المقولات الملازمة لها بمثابة ثورة ثقافية يعاد فيها الاعتبار لكرامة الإنسان و حقوقه و أحقيته في ممارسة التفكير و التنظير لنفسه و مصالحه انطلاقا من ذاته و عقله. و لقد ارتبط ظهور (الأنسنة) أو المذهب الإنساني عموما بعصر الإصلاح الديني و عصر النهضة في أوروبا في القرنيين الخامس عشر و السادس عشر، حيث بدا التحول في تلك الفترة من الدين إلي العلم ، ومن الله إلي الإنسان، ومن الماضي إلي الحاضر و المستقبل. حيث نجد أن أهم ما ركز عليه الإصلاح الديني خاصة مع لوثر في القرن السادس عشر هو الاعتراف بدور العقل و مكانته في البحث الحر، وزعزعة الأستاذية العقائدية التي كانت تمارسها الكنيسة دون الخروج النهائي عن الإطار الانطولوجي العام للوحي. و نري أن من أهم منطلقات النزعة الإنسانية هي مركزية الإنسان و الانطلاق من معرفة الإنسان ، كما أن موضوعها هو تقويم الإنسان و تقييمه و استبعاد كل من شانه تغريبه عن ذاته ، سواء بإخضاعه لقوي خارقة للطبيعة البشرية ، أم بتشويهه من خلال استعماله استعمالا دونيا دون الطبيعة البشرية. فهي نظرية أو نزعة ترفض كل أشكال الاغتراب و الاضطهاد و تطالب باحترام الكرامة الإنسانية و حتى الأشخاص في أن يعاملوا كغايات في ذاتها. و هذا لا يعني أن النزعة الإنسانية في الفكر الغربي بجميع ألوانها و تعبيراتها هي خروج علي الدين.  ومما لاشك فيه أن النزعة الإنسانية (الأنسنة) قد شكلت من خلال التنوير الأوروبي واحدًا من أعمدة الحداثة الغربية ، خاصة و أن الأنسنة تعطي أهمية كبيرة للإنسان و عقله في التمييز و إدراك بناء الأحكام المعيارية ، و معناه أيضا رفض كل أسبقية دينية أو ميتافيزيقية يمكنها أن تحد من إبداع الإنسان و  فعاليته في التاريخ ، من هنا تمثل النزعة الإنسانية قطيعة حاسمة مع كل نظرة لاهوتية قروسطية صادرت كيان الإنسان باسم الإيمان  ، وتمثل في الوقت نفسه تأسيسا لفلسفة جديدة لروية جديدة تجعل الإنسان محل المركز من الوجود بعد أن كان من الوجود علي هامشه . أن الآنسة كما يقول (علي حرب) هي ثمرة لعصر التنوير و الانقلاب علي الروية اللاهوتية للعالم و الإنسان ، أي ثمرة رؤية دنيوية و محصلة فلسفية علمانية و دهريه ، بهذا المعني فان الأنسنة هي الوجه الآخر للعلمنة. فما أنجزته الحداثة الغربية هو كونها أحلت سيادة الإنسان و سيطرته علي الطبيعة محل الذات الإلهية و هيمنتها علي العالم ، وذلك علي العكس ما كان سائدا في القرون الوسطي ، من خلال  استقلالية الذات البشرية و تحرير عقلها أو روحها. و لقد مرت النزعة الإنسانية بمراحل تطور من أهمها: إنسانية عصر النهضة و في هذه المرحلة يتجلي بوضوح الاهتمام بالإنسان ، و إنساني عصر النهضة و حدهم هم الذين أدركوا أن العالم القديم كل يشكل حضارة مستقلة . وقد أصبحت مركزية الإنسان هي السمة الأساسية لاهتمامات الإنسانية في عصر النهضة ، كذلك يوجد مرحلة إنسانية عصر التنوير ، وهي  عبارة عن جماعة من المثقفين تكونت في مختلف بلدان أوروبا في القرن الثامن عشر كانت تربطهم علي ما بينهم من خلافات توجهات مشتركة ، تتمثل في مشروع قائم علي النزعة الإنسانية و العلمانية.و كانت باريس مركز لتلك الحركة. أما إنسانية القرن التاسع عشر فهي إنسانية من أهم سماتها حدوث تطورات علمية مهمة انعكست علي خصائص النزعة الإنسانية ، إذ تأكدت قدرات العلم علي تحقيق التقدم من خلال إعادة صياغة العالم عن طريق تبني المشروعات الاقتصادية الجديدة . أما إنسانية القرن العشرين فقد شهدت تطورات مهمة خاصة فيما يتعلق بنشأة علم الاجتماع و النفس. و برزت الظاهرة الاجتماعية بوصفها بحثا مستقلا له منهاجه و أدواته و مسائله من خلال عالم الاجتماع (دوركايم) .  و يجب أن نلفت الانتباه إلي أن المذهب الإنساني قد تعرض لعدد من الانتقادات مثله مثل المذاهب الاخري ، منها ان تقدم العلم لم يصحبه تقدم في قدرة الإنسان علي حسن استعمال العلم ، و أن البشر وجهوا اهتمامهم جميعها إلي المسائل الدنيوية و نسوا كل ذلك و تركزت مطامعهم في الأشياء الزائفة التي يسرها لهم العلم ، و حدث من جراء ذلك صدع بين تقدم الإنسان في المعرفة و تقدمه الأخلاقي.إن الإنسانية تؤكد علي زيادة خطر الإسراف في الاعتماد علي الآلة  ، فهذا الإسراف قد يقضي علي الأصالة و الابتكار ، كما أن الأسس الأخلاقية لا تصلح إلا إذا استندت إلي الاعتقاد بوجود نظام اسمي من النظام الدنيوي و الإيمان بالمبادئ الخالدة المطلقة ، أما إذا اقتصرت الآداب علي أن تكون خاضعة للمواءمة بين الإنسان و بيئته ، كلما تغيرت الظروف و تبدلت الأحوال، فإنها بذلك تفقد قيمتها العامة. كذلك رأي بعض نقاد المذهب الإنساني  أن هذا المذهب قدم و عودا للإنسانية لم يحققها، كما انه افقد الناس الشعور بالحقائق الروحية و جعل الناس عبيدا للقوي المادية العمياء ، كما أن نقاد المذهب الإنساني ارجعوا إخفاق عصبة الأمم في تسوية المشكلات في العلم و انتشار الفاشية و النازية إلي ظهور المذهب الإنساني، وان عيوب المدنية الغربية ترجع في الغالب الأعم منها إلي المذهب الإنساني. و برغم هذه الانتقادات للمذهب الإنساني لا تقلل من أهميته باعتباره مذهب اعلي من الاهتمام بالإنسان و همومه،و جعله مركز الكون بعد أن كان علي الهامش في فترة العصور الوسطي.  

عماد الدين إبراهيم عبد الرازق

اللقب العلمي/أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب –جامعة بني سويف التخصص. فلسفة حديثة و معاصرة البلد.جمهورية مصر العربية المؤلفات العلمية.فلسفة الدين عند جوناثان ادواردز-العقل عند ارمسترونج-الأخلاق عند دوجالد ستيوارت-الدين عند ادجار شيفلد برايتمان-المعرفة عند تشيشولم-حرية الإرادة عند روبرت كين و العقل عند أنتوني كيني . مدخل إلى فلسفة الحضارة. مدخل إلى فلسفة السكان. نظرية العواطف عند برود. نقد الحضارة الغربية في فكر مالك بن نبي. مدخل إلي الميتافيزيقا. ومئات من المقالات في مجلات عربية و مصرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى